القناعة والطموح
كيف نجمع بينهما لحياة متّزنة وصحيّة.

هل يجتمع الطموح والقناعة؟
وإذا اجتمعا كيف نحقق التوازن بينهما؟
هذا السؤال كثيرًا ما يتبادر إلى ذهني، وتيقّنت بأنّي لن أجيب عنه إلّا حين أكتب ما يدور في خَلَدي تجاهه.
ما يدفع المرء إلى التقدّم وصولًا لأهدافه وغاياته هو الطموح، بينما تمنحه القناعة اليسير ليرضى، والهوان على أمرٍ كان مُراده ولم يدركه. فجمعهما قطعًا هو الأنفع، وترك أحدهما مُنهك، وكلا الأمرين مكملٌ للآخر.
أحيانًا يلتبس عليّ الأمر عندما استحضر اختلاف الأراء ووجهات النظر في الأمر، فبعضهم يميل إلى الطموح والآخر إلى القناعة، وما أقصده هو على سبيل المثال بيتُ المتنبي بقوله: «إذا غامرت في شرف مروم ... فلا تقنع بما دون النجوم».وعلى العكس بيتٌ لأبي فراس بقوله: «ما كلّ فوق البسيطة كافيًا ... فإذا قنعت فكلّ شيءٍ كافِ». بيتان يعكسان رؤيتين متناقضتين.
صدقًا تحتار! لا تدري مع أي نهجٍ بينهما تنتهج، وأيّ طريقٍ تسلك. فإذا كانت مدرسة المتنبي منهجك، ونظرتك دائمًا للنجوم تجاه كل أمر، فلا شيءُ سيكفيك، وستظل غير قانع بأي خيرٍ أنعمه الله عليك. وعكسها بمدرسة أبي فراس، فإذا كنت تقنع في كل أمر وترضى بيسيره لأن القاعدة هنا؛ لا شيء على وجه الأرض كافي؛ فلن تقوم بأي قائمة ولن تبذل السبب لإيمانك بعدم الاقتناع حالما تحصل عليه.
وأيضًا بالنظر إلى سيرة رسولنا الكريم، وبها قطعًا لا نشكك وما يكون بي تجاهها هو معيار التوازن بين الأمرين وكيفيّة تحقيقه. فعندما نعرف عن كلام الصدّيقة عائشة في قولها عن الرسول: «كأنّما قد رُفع له عَلَم فشمّر له» فدلالة هذا على قوّة الإرادة والعزيمة في الأمر. وفي حديث آخر يقول الرسول: «الله يحب الفأل». فالفأل؛ يدفعك للحركة والتقدّم على أمل تحقيق ما تصبو إليه. وبذات الوقت في موضعٍ آخر يقول «واقنع ما آتاك تكن أغنى الناس». فسؤالنا أعلاه يحضر، بكيف يُجمع بينهما ليتحقق المُراد؟
وقبل أن نبدأ ولكي نتفق على أمر أعزّائي: معنى أن تقنع ليس بالضرورة أن تستسلم ولا تغيّر واقعك. ومعنى أن تطمح لا يعني أن يكون سعيك وراء المستحيل. لأن الطموح كما هو معلوم على قدر الاستطاعة، فهو مختلفٌ من شخصٍ إلى شخص، فكما قال ضيف فنجان «خالد الجابر»: لن تصبح سليمان الراجحي خخ، باختلاف الطموح طبعًا. والقناعة حقًا بما لا يمكنك تغييره، والرضا بما هو لديك مع السعي للمُستطاع.
أعلم أنّها مقدّمة قد تكون طويلة، ولكنّي حريص عليك عزيزي، وعلى أن تكون بدرايةٍ تامّة من جميع الجوانب.
بدايةً من قول الرسول ﷺ عن ربّه: «إنَّ اللهَ تعالى يُحِبُّ مَعاليَ الأُمورِ ، وأَشرافَها، ويَكرَهُ سَفْسافَها».
وهذا يدلّ أنّ رسالة ديننا لنا؛ بأن نكون ذوي طموحات عالية، وهمّة سامية توصلنا لما نطمح إليه. فما أحاول إيصاله عزيزي أنّه إذا كانت لك القدرة على الوصول لمبتغاك يجب ألّا تقنع وأن تحاول مهما كانت السبل للوصول إليه. نعم قد يطول الطريق، ويكثر التعب، ويشقّ عليك، وتخرّ قواك أحيانًا ولكن: القوّة القوّة لا بارك الله بالضعف. لأنّي أرى من الخذلان والتواكل؛ أن تقنع بما تستطيع تغييره، ويمكنك فعل شيءٍ تجاهه. وتكون القناعة في أمرٍ لا يمكنك فعل شيء حياله ولا تغييره.
أمّا عن القناعة، فهي لو علمنا أنّها دائمًا ما تكون مربوطةٌ بشكر النعم؛ وبالقناعة يتحقق الشكر لاختلف تعريفنا لها. بأن نقنع بشيء لا يتغيّر بتاتًا، ونقنع بما رزقنا الله ونشكره على خصّنا به، وبها لا يعني الجلوس وشكر الله ما أنعم فقط، بل الشكر بالعمل كذلك. بالقناعة يا عزيزي نرضى عن أنفسنا، ومحيطنا، وجميع ما بنا؛ لنطمح للأعالي ونحقق المُراد. وحتّى إن صعُب وكثرت علينا الشُقّة، نقنع ونشكر الله على سعينا ونستشعر كل نعمة، ونحمده على الاستشعار بها، لنتقوى على العمل والسعي الحثيث وراء ما نطمح. وعلى الاستشعار فإنّي أراه بحد ذاته نعمةً توصلك وتحقق مُبتغاك، لأنه:
هو الذي يجعلك قانعًا بما تملك، قانعًا بما لديك، قانعًا بما فيك، حتّى قانعًا في كامل شخصك.
هو الذي يحبّبك بعملك وبما تقوم به، وبمن تلتقي بهم، وبما هو لديك جرّاء عملك.
هو وقودك لما تطمح إليه، فإن كنت مستشعرًا فستصبر وتتحمل كل ما يشقّ طريقك لا محالة لأن الطريق كما هو معلوم ليس مفروشًا بالطيب ومغطًّى بالورد.
ختامًا: القناعة بدون طموح قد تُبقيك في مكانك، والطموح بدون قناعة قد يجعلك في سباق لا نهاية له. لكن حين تستشعر النعم وتقدّر ما لديك، دون أن تتوقف عن السعي للأفضل، حينها تصل إلى التوازن الحقيقي.
وكما قال إبن زويبن وبقوله إختصارًا لجميع ما كتبت في ظنّي «إن كان بي حيلة صبرت وتحمّلت ... وإن قلّت الحيلات حيل الله أقوى».

شيء من كل شيء، وأشياء من الشيء. صعّبتها حتّى تحس إنها قيّمه، ولا تراها سعة.