الشعر: تسوّل ولا حكمة؟

دايم ما أسأل نفسي عن الشعر وغايته، وكيف إن بعض الشعر يطرب، ويغيّر فيك كثير!

وأحيان يحطّ من ناس ويرفع آخرين. لكن السؤال هنا مو عن الشعر، بل عن الشعراء أنفسهم.

نعلم أن الشعر مرتبطٌ فينا كعرب، فهو الهُويّة والثقافة، والحكمة والفصاحة. فهو ملتصق فينا أينما كنّا: في فرحنا، وترحنا، والتعبير عن مشاعرنا، وما يجول في خواطرنا. ومن شدّة ارتباطه بنا أصبحت وكأنّ بعض المواقف التي تحدث لنا باختلاف الزمان والمكان، مقرونةٌ ببيت من القصيد يعبّر عنها.

  • تجري الرياح بما لا تشتهي السفن.

  • على قدر أهل العزم تأتي العزائم… وتأتي على قدر الكرام المكارم.

  • لا خاب ظنك بالرفيق الموالي ... مالك مشاريه على باقي الناس.

وكثيرةٌ هي الاستشهادات التي تصاحبنا في كل حين، وكيف لا ورسولنا الكريم الذي قال عنه حسّان بن ثابت: «وأحسن منك لم ترى قطّ عيني… وأجمل منك لم تلد النساء».

وعندما سألوا زوجه: هل كان يتمثّل بشيء من الشعر؟ أجابتهم: بنعم، وكان ينشد شعر ابن رواحة، وكان يُكثر من بيت صاحب المعلقة طرفة بن العبد: «ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد».

وعلى عِظم مكانة الشعر عند العرب، ومكانة الشعراء لدى العرب. إلّا ما نجد ما يبدر من الشعراء; المنغصّات والتلاعب، نجدهم أخذوا الشعر لمنحنى التسوّل والتذلل وليأخذوا مبتغاهم، وضرّوا خلافهم; بمن يعرفون بالحكمة والشجاعة وهم عكس من ذكرنا تمامًا. فهم يدركون معنى الشعر ومدى أثره، وتقبله عند الناس ولكنّ شعراء التسوّل أفسدوا عليهم وأصبحنا لا نفرق بين شاعر الحكمة والتسوّل وشتّان بينهما . أجدهم حبايبنا: متسولون، حمالّون أوجه في طرحهم، فهم خلف مصالحهم يهيمون ويمدحون. فيندر أن أثق بشاعر أيًا من كان ولو أنّي أطرب لما يقول. فهؤلاء فعلًا ما قال عنهم سبحانه:

«وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ. أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ.  وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ».

مؤسفٌ أن نرى شاعرًا يستخدم كلمته لمبتغاه، فيكذب ويخلّد ذكر مديح من هو قليل، لشيء عنده فقط. ولذلك مصداق قولنا الشافعي وهو شاعرٌ عالم: «وَلَولا الشِعرُ بِالعُلَماءِ يُزري… لَكُنتُ اليَومَ أَشعَرَ مِن لَبيدِ».

فما نراه بلسان حالهم: أغدقت عليّ من نعمائك، أمدحك ليخلد ذكرك. منعتني؟ فتحمّل إذًا هجائي وسوءة ما سأقوله عنك. فهذا المتنبي يمدح كافورًا يتسوّل المال ليأخذ مبتغاه ويقول عنه « قَواصِدَ كَافُورٍ تَوارِكَ غَيْرْهِ ... وَمَنْ قَصَدَ البَحْرَ اسْتَقَلَّ السَّواقِيا» وكان يكنّى كافورًا بأبي المسك، إلى أن يقول «أَبا كُلِّ طيبٍ لا أَبا المِسكِ وَحدَهُ …وَكُلَّ سَحابٍ لا أَخَصُّ الغَوادِيا» فجعله بقصيدته: الثريّا بالسماء والناس دونه، وجعله السحاب الغدق، وفعل يمينه وخيره وابله. فعندما طلب المتنبي كافورًا أن يولّيه منصبًا وحكمًا لديه، قوبل طلبه من كافور بالرفض، فغضب المتنبي لردّ طلبه وأوصل له قصيدته عندما خرج من مصر والتي يقول فيها عن من كان عبدًا ثمّ ملكًا: «لا تَشتَرِ العَبدَ إِلّا وَالعَصا مَعَهُ… إِنَّ العَبيدَ لَأَنجاسٌ مَناكيدُ» ويقول بها «صارَ الخَصِيُّ إِمامَ الآبِقينَ بِها… فَالحُرُّ مُستَعبَدٌ وَالعَبدُ مَعبودُ.».

والأكيد لا نختلف في أن قبائل العرب تفخر في وجود شاعرٍ فيها، يعوّل عليه في كبرى المحافل، والأحداث لحماية، وتعزيز سمعتها، ويكون لسانه سلاحهم، وكملته سيفهم. لأن الشعر يحطّ من قبائل، ويرفع من الأخرى ولنا في قصيدة جرير مع الراعي النميري أكبر دليل على ما نقول: فَغُضَّ الطَرفَ إِنَّكَ مِن نُمَيرٍ…فَلا كَعباً بَلَغتَ وَلا كِلابا. فمن بعدها لاحقهم العار أينما حلّوا ولا زلنا في ذكرها بعد ألف عام.

وعلى النقيض: ممن رفع شأنهم، وأعلى قدرهم هم قومٌ من بني حنظلة بن قريع يسمّوْن ببني أنف الناقة، سمّوا هكذا لأن جدهم عندما كان طفلًا اجتمع قومه على لحم بعير ليأخذوا قوتهم منه ويتقاسموه، ولصغر سنّه وقلّة حيلته لم يصفى له إلّا أنف الناقة وأخذ يجرّه إلى أمه بعدما اقتسموا، وكل من لاقاه يقول له معي أنف الناقة. وأصبح يُعيّر فيه إلى أن كبر وهكذا استمرّ على سلالته كذلك، وحتّى أنهم أصبحوا يتجاوزون اسمه لكي لا يُذكر أنف الناقة هربًا منه. إلى أن زار شاعر الهجاء الحطيئة أحدهم وأكرمه وأغدق عليه خوفًا من هجائه! فما بهم كافيهم عنه. سأله الحطيئة من أنت وأخبره على استحياء، وعرفهم. وقال فيهم «قومٌ هم الأنفُ والأذنابُ غيرُهمُ ...ومن يسوِّي بأنفِ الناقةِ الذنبا» فأصبح أنف الناقة مدعاة فخرٍ لا مذمّة.

عجيب أمر الشعر، وأعجب منه الشعراء.

زياد
زياد

شيء من كل شيء، وأشياء من الشيء. صعّبتها حتّى تحس إنها قيّمه، ولا تراها سعة.